ربما كان من حسنات هذا الداء العضال المسمى (كورونا)، ما أثاره من نقاشات نظرية، وسجالات وردود فكرية، تباينت واختلفت، من حيث قيمتها وحدتها ومستواها. بديهي أن النقاش الفكري ظاهرة صحية، تؤشر على وجود حيوية في المجتمع، وامتلاك عناصره لحد معين من القدرة على مطارحة الآراء، والتعبير عنها، في جو قوامه الاحترام المتبادل والتقدير الجميل، لمختلف الآراء ووجهات النظر.
لست أدري ماذا سنخسر، إذا عبر كل طرف عن معتقده، وأدلى كل واحد بوجهة نظره، بصوت مسموع، وبالشكل الذي يروق له، وباعتماد المرجعيات التي يؤمن بها، في احترام كامل لكل الآراء المخالفة والمناقضة له؟؟. المؤكد أننا سنربح كثير، حين نتمكن من الإنصات إلى كل التعبيرات، والإصغاء إلى مجمل الأطاريح التي يحملها أصحابها، بما يفيدنا في إشاعة قيم الحوار الرصين والهادف، وبما يمكننا من صياغة مشاريع نظرية ذات عمق وجدوى، على كافة المستويات والمباحث.
مناسبة هذا الكلام هو، ما أثير من نقاش، اختلفت درجة حدته بين طرف وآخر حول ما يسمى عادة بالعلاقة بين العلم والدين، إذا صحت العبارة في ارتباط بما تشهده بلادنا من جراء هذا الوباء الكريه (كورونا ).
لا بد من الإشارة بداية إلى أن ما يسمى بمبحث (الدين والعلم) أو (الإيمان والطبيعة) أو ما شئت من التسميات، هو من أعقد المباحث العقلية، وأعوص النقاشات النظرية، بالنظر إلى الأسئلة التي يقتضيها هذا المسار، والتي لا تنتهي، والتي تتجدد مع تجدد القضايا والمناهج والرؤى، ويكفي الإشارة إلى أن مبحث (العلم والدين) هذا، أو ما يسمى كذلك، هو أحد الأسباب الرئيسة لنشوء ما عرف في ثقافتنا بعلم الكلام، وانطلاق شرارة الاختلاف الفلسفي حول العديد من القضايا، التي يكون موضوعها ما سماه الفلاسفة بالإلهيات والطبيعيات، بلا تدقيق في المصطلح، ما يعني أن النظر في مجمل هذه القضايا، يمتد إلى القرون الأولى للإسلام، وإلى ما قبل ذلك، إذا أردنا الحديث عن تاريخ الفكر البشري في علاقته بالدين عموما، ما يعني في النهاية أن الفصل السريع أو المتسرع في هذه القضايا محال، وغير ممكن، وأن الفيصل في الأمر هو المزيد من تعميق الأسئلة، وسبر أغوار المعرفة العلمية من أجل صياغة أطاريح أكثر نضجا و إقناعا، بعيدا عن ضغط مختلف التصنيفات، والأحكام المتسرعة، في احترام كامل لكل الآراء والخلاصات.
يمكن أن نقول ، بنوع من التركيز، الذي قد لا يخلو من بعض الشطط، أننا إزاء أطروحتين اثنتين، الأولى قد نسميها بالرؤية الإيمانية، وتقول بضرورة الجمع بين الدواء، بما يعنيه ذلك من ضرورة الاهتمام بالبحث العلمي، وما يقتضيه هذا المسار من جهد، وبين الدعاء والتضرع إلى الله بما هو الخالق لهذا الكون ومدبره الأول، والرؤية الثانية، ويمكن تسميتها بالعلمانية، إذا صحت العبارة، ويلح أصحابها أن للداء أسبابه المادية الخالصة، التي يفهمها ويتصدى لها أهل الاختصاص في الموضوع، ولا علاقة للأمر بأي عامل خارج هذا المعنى، وضمن كل رؤية تتعايش وتتناسل وتتساوق، جملة من الآراء التي تتراوح بين الاقتراب والابتعاد، فماذا سنخسر إذا عبر كل طرف عن وجهة نظره، وبسط كل فرد رأيه، بالشكل الذي يعتقده ويؤمن به، واتجهنا جميعا إلى إنضاج حوارات فكرية جادة، في كل الاتجاهات، وبكل التوجهات، وعلى كافة المستويات، بغاية خدمة هذا البلد وقضاياه الأساس، ومنها قضية المحافظة على صحة المواطنين والمواطنات جميعا. المؤكد أننا سنربح جميعا، وسيربح الوطن.
المصدر : https://wp.me/p5M2ON-x8